الثلاثاء، 3 مارس 2009

توضيح الاستعارات/ لعبدالرزاق الحسيني

كتاب توضيح الاستعارات/ تأليف عبدالرزاق الحسيني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تمهيد:
ذُكر في المعجم الوسيط أن الاستعارة في علم البيان هي استعمال كلمة بدل أخرى لعلاقة المشابهة مع القرينة الدالة على هذا الاستعمال، كاستعمال الأسد في الشجاع. انتهى

شرح التعريف والمعنى السابق للفظ الاستعارة في علم البيان:
الاستعارة في علم البيان تعني استعمال كلمة بدل كلمة أخرى، وسبب ذلك الاستعمال وجود علاقة المشابهة في الكلمتين، مع وجود القرينة الدالة على هذا الاستعمال.
والاستعارة من المجاز اللغوي وهو اللفظ المستعمل في غير ما وُضع له لعلاقة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي.
كاستعمال لفظ الأسد في إطلاقها على الشجاع، أكان الشجاع إنسانا أم حيوانا. فلو قلت: قابلت أسدا سلّم علي، نجد أن لفظ أو كلمة أسد استعملت بدل كلمة أخرى وهي رجل، وعرفنا ذلك بسبب القرينة اللفظية وهي قابلت وسلم، فالقرينة هنا منعت إرادة المعنى الحقيقي من لفظ الأسد وذلت على المعنى المجازي منه وهو الرجل، فنحن نقابل الناس لا الحيوانات خصوصا الأسود فهي متوحشة وغاضبة، والسلام لا يحصل إلا من آدمي، فلفظ الأسد استعمل لغير المعنى الحقيقي الذي وُضع له للدلالة على المعنى المجازي الذي أريد منه لعلاقة المشابهة بين اللفظين وهي اشتراك الرجل والأسد في الشجاعة.
ومن فوائد استعمال لفظ الأسد هنا بيان مدى قوة الشجاعة الموجودة في ذلك الرجل أو الشخص المراد. ولذلك كانت الاستعارة تندرج تحت علم البيان.

تنبيه: القرينة هي لفظ في الكلام أو حال يدل على وجود عملية الاستعارة في اللفظ المستعار، حيث أنها تمنع إرادة المعنى الحقيقي من اللفظ المستعار وتوجب معنى مجازي منه، فالقرينة نوعان لفظية وحالية. وسميت قرينة لاقترانها باللفظ المستعار في الدلالة على المعنى المجازي المراد من ذلك اللفظ.





من كتاب البلاغة الواضحة قواعد وأمثلة مع الشرح والتوضيح
ذُكر في البلاغة الواضحة في درس الاستعارة الأول:
القاعدة:
الاستعارة من المجاز اللغوي، وهي تشبيه حُذف أحد طرفيه، فعلاقتها المشابهة دائما، وهي قسمان:
الأول: تصريحية، وهي ما صُرّح فيها بلفظ المشبّه به.
الثاني: مكنية، وهي ما حُذف فيها المشبه به ورُمز له بشيء من لوازمه. اهـ

الشرح والتوضيح للقاعدة:
الاستعارة من المجاز اللغوي، والمجاز اللغوي هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي.
فالاستعارة من المجاز اللغوي حيث أنها استعمال لفظ في غير ما وضع له، كاستعمال لفظ الأسد في غير ما وضع له لفظ الأسد، فلفظ الأسد وضع للحيوان المعروف المفترس الشجاع سريع الغضب، وفي الاستعارة يُستعمل لغير ذلك، كأن يستعمل للرجل الشجاع، وذلك لعلاقة المشابهة بين اللفظين مع قرينة تكون مانعة من إرادة المعنى الحقيقي الذي وضع له في الأصل، وسبق بيانه.
والاستعارة هي تشبيه حُذف أحد طرفيه، وطرفا التشبيه هما المشبه والمشبه به، والمعنى أن اللفظ أو الكلمة التي وضعت للاستعارة إما أن تكون هي المشبه به فتكون الكلمة الأخرى التي استعملت بدلها الكلمة المستعارة هي المشبه، فتكون الاستعارة حينئذ تصريحية.
وإما أن تكون الكلمة التي وضعت للاستعارة هي المشبه فتكون الكلمة الأخرى التي استعملت بدلها الكلمة المستعارة هي المشبه به، فتكون الاستعارة حينئذ مكنية.

وبما أن الاستعارة هي تشبيه حذف أحد طرفيه، وأنها من المجاز اللغوي، وأن المجاز اللغوي تتنوع فيه العلاقة بين المعنى الحقيقي للكلمة وبين المعنى المجازي على نوعية استعمال الكلمة بدل الكلمة الأخرى، فإن الاستعارة علاقتها المشابهة دائما لأنها كما ذُكر تشبيه حذف أحد طرفيه.
ويتبين مما سبق أيضا أن الاستعارة لها قسمان رئيسيان من أقسامها:


الأوّل: الاستعارة التصريحيّة
القسم الأول هو الاستعارة التصريحية، وهي ما صرح فيها ــ أي أُظهر فيها مجاز الاستعارة اللغوي ــ باستعمال لفظ المشبه به بدل لفظ المشبه.

المثال الأول: قوله تعالى: ( كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور).
في هذا المثال مجاز لغوي وهو الاستعارة حيث أن فيه كلمة أو لفظ استعمل في غير ما وضع له وهو لفظ الظلمات، والظلمات جمع ظلمة والمعنى الحقيقي للظلمة هو السواد وذهاب النور، لكن لفظ الظلمات هنا في الآية استعمل لمعنى الضلال،والعلاقة بين لفظ الظلمات والضلال هي المشابهة، حيث اشتراكهما في السواد فمن ثَم عدم القدرة على الرؤية الصحيحة والسير في الطريق الصحيح، فالمعنى لتُخرج الناس من الضلال، فصُرّح بلفظ المشبه به وهو الظلمات وحُذف المشبه وهو الضلال، حيث شبه الضلال بالظلمات.

وأيضا في الآية استعمال مجازي لكلمة أخرى وهي النور، فلفظ النور استعمل هنا في غير ما وُضع له، حيث أن الذي وضع له هو معناه الحقيقي وهو الضوء وسطوعه، والذي استعمل له هنا معنى مجازي للفظ النور وهو هدى الإيمان، والعلاقة بين لفظ النور وهدى الإيمان هي المشابهة، حيث أنهما يشتركان في الإضاءة فمن ثَم القدرة على الرؤية الصحيحة والسير في الطريق الصحيح، فالمعنى لتخرج الناس من ضلال الكفر إلى هدى الإيمان. فهنا أيضا صُرح بلفظ المشبه به وهو النور وحذف المشبه وهو هدى الإيمان.

فاستعملت كلمتا الظلمات والنور مجازا في الآية الكريمة، والقرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي الذي وضع له لفظ الظلمات ولفظ النور قرينة حالية، وهي أن حال إنزال القرآن الكريم على النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم يقتضي إخراج الناس من الضلال إلى النور، من ظلمات الضلال إلى نور الإيمان، لا من الظلمة إلى الضوء، وإن كان النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم رحمة لنا حتى به يخرج من وقع في الظلمة وعدم الرؤية إلى الضوء والنور، ولكن محط الآية الرئيسي يقتضي الأساس من إنزال القرآن حيث تعلقه بحال القلوب.


تنبيهان:
الأول: الضلال المعني به في موضوعنا هو الذي يحل في القلب ويظهر على الجوارح، لكن سواده ليس كسواد الظلمة الظاهرة الذي لا ترى العين المجردة فيه الأشياء، لكنه يعمي رؤية القلب للحق والهدى، فالمشابهة تكون بين اللفظين من بعض الوجوه ولذلك سميت مشابهة، فالمشبه يشبه المشبه به من بعض الوجوه، وقس عليه لفظ النور مع هدى الإيمان.

الثاني: في الاستعارة الأولى نستطيع القول: بأن المشبه به هو الظلمات والمشبه به هو الضلال أو الكفر أو ضلال الكفر. وفي الاستعارة الثانية نستطيع القول: بأن المشبه به هو النور والمشبه هو الهدى أو الإيمان أو هدى الإيمان.
ولا يعني قولنا هدى الإيمان وضلال الكفر مشبهان معارض لتعريف الاستعارة بأنها كلمة بدل كلمة، لأن هدى الإيمان وإن كانا كلمتين ولكنهما مضاف ومضاف إليه وكذلك ضلال الكفر، لأن المضاف والمضاف إليه كالكلمة الواحدة.
والمجاز اللغوي لفظ استعمل بدل لفظ والاستعارة من المجاز اللغوي، واللفظ يكون كلمة أو أكثر ومن هذه الحيثية يندرج قسم من الاستعارة وهو الاستعارة التمثيلية التي سيأتي بيانها بإذن الله تعالى.

المثال الثاني: قول المتنبي وقد قابله مَمْدوحُه الذي يمدحه وعانقه:
فلمْ أرَ قبلي مَنْ مشى البحرُ نحوهُ ولا رَجلاً قامت تعانقه الأسْدُ

وفي هذا البيت مجازان لغويان وهما استعارتان، الأولى في لفظ البحر والمعنى الحقيقي للبحر هو الماء الواسع الكثير، لكن لفظ البحر في البيت أُريد به الكريم، إنسان متصف بالكرم والمعنيّ به هو الممدوح، فاستعمل لفظ البحر في غير ما وضع له حيث استعمل بدل الإنسان الكريم، وذلك لعلاقة المشابهة، حيث أن البحر واسع وتبطن فيه الكنوز والأسماك وتفيض تلك الأرزاق على المخلوقات المستوطنة فيه وعلى البشر، والممدوح كريم يجود على من حواليه.
فهنا صرح بلفظ المشبه به وهو البحر وحذف المشبه وهو الإنسان المتصف بالكرم فالاستعارة تصريحية، والقرينة لفظية وهي قوله: مشى، حيث أن البحر الحقيقي ليس له أقدام يمشي بها ولا يتصف بالمشي، فمنع اللفظ مشى إرادة المعنى الحقيقي من البحر في البيت وأوجب إرادة معنى مجازي.
والاستعارة الثانية في لفظ الأُسْد جمع أسَد، والمعنى الحقيقي للأُسْد أنها حيوانات من الفصيلة الكلابية ومن الوحوش الضارية وهي معروفة، لكنها في البيت أُريد بها معنى مجازي وهو الشجعان، فاستُعمل لفظ الأُسْد لغير ما وضع له، واستعمل بدل لفظ الشجعان، حيث منعت القرينة اللفظية "تعانقه" من إرادة المعنى الحقيقي ودلت على المعنى المجازي، حيث أن الأسود لا تعانق الإنسان ولا يواجهها الإنسان بالمعانقة.
فشُبه الشجعان بالأسد وصُرح بالمشبه به وهو الأسد وحُذف المشبه وهو الشجعان، والعلاقة بين اللفظين هي المشابهة في الاتصاف بالشجاعة، والمعنى أن الممدوح من الشجعان الذين يعانقون المتنبي.
تنبيهات:
الأول: العلاقة بين المشبه والمشبه به هي المشابهة، والأمر الذي يشتركان فيه هو وجه الشبه.
الثاني: بعبارة أخرى نستطيع القول بأن المشبه في الاستعارة الأولى والثانية هو الممدوح، والمشبه به في الاستعارة الأولى هو البحر وعلاقة المشابهة بين طرفيها هي الكرم، والمشبه به في الاستعارة الثانية هو لفظ الأُسْد وعلاقة المشابهة بين طرفيها هي الشجاعة.
ويمكننا القول بأن المتنبي ذكر المشبه به في الاستعارة الثانية بصيغة الجمع والمشبه واحد وهو الممدوح سببه إما يرجع إلى الحفاظ على وزن البيت أو إلى أن صيغة الجمع بها زيادة في قوة المدح مع التعظيم للممدوح.
الثالث: وفي البيت قرينة حالية أيضا تشترك فيها الاستعارتان، وهي أن المتنبي تلفظ بالبيت في حال حصول المشي من الممدوح نحوه وفي حال حصول التعانق، فلم يناسب إطلاق لفظ البحر ولفظ الأسد على معناهما الحقيقي حيث أن الحال المقارن للبيت يمنع ذلك، فناسب إطلاق المعنى المجازي من اللفظين خصوصا والمتنبي في حال مدح لممدوحه.
ملاحظتان:
الأولى: بعض الطلاب لديهم القدرة على استخراج الاستعارة من النصوص، ولكن بعض النصوص تتعرقل معهم بسبب غموض ألفاظها أو بعض الألفاظ، والحل هو استخدام أحد المعاجم في معرفة الألفاظ الغامضة ومن ثم يتبين في النص أفيه استعارة أو استعارات أم لا.
الثانية: يتم إجراء الاستعارة على الأسماء والأفعال، والاستعارات التي طفنا بها أُجريت على أسماء، والآن نذكر مثالا أجريت فيه الاستعارة على فعل:

وهو المثال الثالث من أمثلة الاستعارة التصريحية: يقول المتنبي في مدح سيف الدولة:
أما تَرى ظَفَراً حُلْواً سِوى ظفرٍ تَصافَحَتْ فيه بِيضُ الهندِ واللِّمَمِ
يمدح المتنبي سيف الدولة ويقول: أن الظّفر والانتصار الحلو في المعركة عندك هو الذي أدى إليه تصافح السيوف بالرؤوس. فمعنى بيض الهند السيوف، ومعنى اللمم الرؤوس.
وفي الحقيقة السيوف لا تصافح الرؤوس بل تتلاقى معها ملاقاة سفك وقطع وجرح، فشَبه المتنبي تلاقي السيوف بالرؤوس بتصافح الأيدي بالأيدي، فالمشبه تلاقت والمشبه به تصافحت والمصرح به هو المشبه به والمحذوف هو المشبه فالاستعارة تصريحية.
والعلاقة بين المشبه والمشبه به هي المشابهة حيث أن في التلاقي والمصافحة ملامسة طرف لطرف آخر واحتكاك، فهذا وجه المشابهة وإن كانت هناك اختلافات كاختصاص المصافحة بالأيدي.
والقرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي من اللفظ تصافحت قرينة لفظية وهي قوله: "بيض الهند واللمم"، فالسيوف لا تعقل لكي تصافح الرؤوس وليس لها أكفف تصافح بها، ولا أكفف للرؤوس.

تنبيه: ليس هناك استعارات في ألفاظ الحروف أي أنه لا يكون طرفا التشبيه في الاستعارة حرفين مستقلين، كفي وعلى وبل ولكن حيث أن الحروف ليس لها معنى في نفسها بل في غيرها، ولا أحد طرفيه، سواء أكان الطرف الآخر اسما أم فعلا.


ملاحظة: معنى المجاز في قولنا (المعنى المجازي للفظ) هو المعنى الذي أُجيز فهمه من اللفظ لوجود قرينة دالة على إرادته. فلكل لفظ معانٍ مجازية تدل على كل واحد منها قرينة خاصة تدل عليها.


وبعد أن عرفنا الاستعارة التصريحية فلنبدأ الخوض في القسم الرئيسي الثاني:
الثاني: الاستعارة المكنية
الاستعارة المكنية وهي ما حُذف فيها المشبه به ورُمز له بشيء من لوازمه.
القسم الثاني من الاستعارة هي الاستعارة المكنية، ووصْفها بالمكنية مأخوذ من احتجاب المشبه به في ضمير المتكلم صانع التشبيه.
قال الحبيب العلامة النحوي عمر بن علوي الكاف رحمه الله ونفعنا بعلومه في كتابه البلاغة:
قال: ( المكنية هي عبارة عن التشبيه المضمر في النفس). اهــ
تنبيه: الأمر في تسمية كلا قسمي الاستعارة السابقين يرجع إلى المشبه به، وذلك لأن فيه وجه الشبه المطلوب لتشبيه المشبه بوجه فيه يشابهه فيه، ولأن وجه الشبه في المشبه به أقوى منه في المشبه، وإن جاز قلب التشبيه كما في التشبيه المقلوب.
فلما كان اللفظ المصرح به في الاستعارة التصريحية هو لفظ المشبه به سميت الاستعارة بالتصريحية، ولما احتجب في قسم آخر منها سميت بالمكنية.

أمثلة من الاستعارة المكنية من البلاغة الواضحة مع الشرح والتوضيح
الأول: قال الحجاج في إحدى خطبه:
إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها


في البيت السابق استعارة مكنية حيث شبهت الرؤوس بالثمار، فاستعمل لفظ الرؤوس بدل لفظ الثمار، وحذف المشبه به واحتجب هنا فصارت الاستعارة مكنية، والقرينة لفظية وهي (( أينعت )) أي نضجت وكذلك (( حان قطافها ))، فمنعت هذه القرينة اللفظية إرادة المعنى الحقيقي من الرؤوس حيث أن الرؤوس لا تنضج ولا تقطف ولكن الثمار هي التي تنضج ومن ثم تقطف. فأريد المعنى المجازي من الرؤوس وهو تشبيهها بالثمار، والعلاقة بين لفظ الرؤوس ولفظ الثمار هي المشابهة حيث أن الرؤوس تشبه الثمار في كونها متصلة بالجسد عن طريق الرقبة وإذا أريد فصل الرأس عن البدن فإنه يفصل ويقطع من الرقبة، والثمار متصلة بأشجارها بعناقيدها وإذا أريد قطفها فمحل القطع العنقود.
فلقد حذف المشبه به وهو الثمار، ورمز للمشبه به - الثمار- بشيء من لوازمه وهو اللفظ ((أينعت))، حيث أن الينعان من لوازم الثمار، فدل الرمز على المشبه به.
قلت: وكذلك هناك قرينة حالية وهي أن نطق الحجاج بالبيت في حال لا يحتمل كون معنى كلمة (رؤوس) إلا مجازاً.
الثاني: قال المتنبي: ولما قلت الإبل امتطينا إلى ابن أبي سليمان الخطوبا

ابن أبي سليمان يقصد به المتنبي ممدوحه. ومعنى البيت: ولما عزت الإبل على المتنبي لفقره ولم يقدر أن يركبها للوصول إلى الممدوح، ركب الأمور الشديدة حيث يقصد ممدوحه.
في البيت السابق استعارة مكنية حيث شبهت الخطوب بالإبل، فاستعمل لفظ الخطوب بدل لفظ الإبل، وحذف المشبه به الذي هو لفظ الإبل واحتجب في نفس المتنبي، فلذلك هي استعارة مكنية. والقرينة لفظية وهي لفظ ((امتطينا)) أي ركبنا والخطوب لا تركب، فمنعت هذه القرينة اللفظية إرادة المعنى الحقيقي للخطوب، ودلت على المعنى المجازي للخطوب وهو تشبيه الخطوب بالإبل. والعلاقة بين لفظ الخطوب والإبل هي المشابه حيث أن الفرد يركب ويمتطي الإبل ليصل إلى مقصده، وكذا الخطوب معناها الحقيقي الأمور الشديدة يركبها الفرد ويقاومها ويمر بها لينال مقصده، وركوب الفرد للخطوب هو ركوب مجازي.
فحذف المشبه به وهو الإبل واحتجب في نفس المتنبي، ورمز له شيئاً من لوازمه وهو لفظ (امتطينا)، فدل لفظ امتطينا على المشبه به وهو الإبل، حيث أن الامتطاء من لوازم الإبل.

الثالث: قال المتنبي: المجد عوفي إذ عوفيت والكرم وزال عنك إلى أعدائك الألم

وفي هذا البيت أيضا مجاز لغوي في كلمة المجد، والمجاز اللغوي هنا هو الاستعارة المكنية حيث شبه المجد بالإنسان، فالمجد مشبه والإنسان مشبه به، وبيان معنى البيت: أن المتنبي يخاطب ممدوحه ويقول له: المجد ــ ومعنى المجد الحقيقي الذي وضع له هو النُّبل والشرف والمكارم المأثورة عن الآباءــ عوفي من الأضرار ويكون معافا إذ كنت معافا وكذلك الكرم مثل المجد، والألم زال عنك وانتقل إلى أعدائك.
والعلاقة بين لفظ المجد والإنسان هي المشابهة، وهي هنا أن الإنسان معرض للمرض وقد يكون معافا، وكذلك المجد فقد يتعرض النبل والشرف إلى التغيير أو التدنيس وأيضا المكارم المأثورة عن الآباء.
والقرينة الدالة على إرادة المعنى المجازي من المجد لفظية وهي (عوفي)حيث أن المجد ليس صورة ظاهرة لها روح تمرض وتعافى كالإنسان، فمنعت القرينة إرادة المعنى الحقيقي وأوجبت إرادة المعنى المجازي.
فحذف المشبه به وهو الإنسان واحتجب في نفس وضمير المتنبي ولم يظهره، ولكنه رمز له شيئا من لوازمه الدالة عليه وهو القرينة واللفظ (عوفي)، حيث أن المعافاة تكون في الكائن الحي، والمجد معنى وليس بكائن حي كالإنسان.

(فصل) الاستعارات أنواع وأهمها استعارتان وهما اللتان مرتا معنا، الاستعارة التصريحية والاستعارة المكنية.
(فصل) قال الحبيب عمر بن علوي الكاف رحمه الله تعالى ونفعنا بعلومه في الدارين في المبحث الثاني من كتابه البلاغة ما يلي:
المبحث الثاني
الاستعارة وأقسامها
الاستعارة من المجاز اللغوي، فهي الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له لعلاقة المشابهة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي.
وأركانها ثلاثة: مستعار منه، مستعار له، مستعار.
فالمشبه هو المستعار له، والمشبه به هو المستعار منه، واللفظ المشبه هو المستعار.
وتنقسم الاستعارة إلى قسمين أساسيين:
1- تحقيقيّة (أو تصريحية).
2- تخييليّة ومكنية. انتهى.
التوضيح: قال تعالى: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور).
المشبه هو المستعار له لفظ المشبه به.
لفظ المشبه به هو الظلمات والنور.
واللفظ المشبه هو الضلال والإيمان.
فالمشبه استعير له لفظ المشبه به، فلفظ الضلال مشبه استعير له لفظ المشبه به وهو الظلمات، ولفظ الإيمان مشبه استعير له لفظ المشبه به وهو النور.
والاستعارة في الآية تصريحية كما سبق بيانها.



تقسيم الاستعارة إلى أصلية وتبعية
تنبيه: لا يعني تقسيم الاستعارة إلى أصلية وتبعية أن هناك استعارة مستقلة غير التصريحية والمكنية تسمى أصلية وأخرى تبعية، ولكن ذلك يعني أن الاستعارة الأصلية قد تكون تصريحية أو مكنية وكذا التبعية. وبعبارة أخرى الاستعارة التصريحية قد تكون أصلية وقد تكون تبعية وكذا المكنية. وذلك يتبين إن شاء الله تعالى فيما يلي:
القواعد:
*تكون الاستعارة أصلية إذا كان اللفظ الذي جرت فيه اسما جامدا.
*تكون الاستعارة تبعية إذا كان اللفظ الذي جرت فيه مشتقا أو فعلا.
*كل تبعية قرينتها مكنية، وإذا أجريت الاستعارة في واحد منهما امتنع إجراؤها في الأخرى.

أمثلة الاستعارة الأصلية
الأول: قال المتنبي يصف قلما: يمجّ ظلاما في نهار لسانه ويفهم عمن قال ما ليس يسمع.
شبه المتنبي القلم بإنسان، ولكنه لم يذكر لفظ القلم في البيت لكننا علمنا أنه قصده بالوصف والتشبيه، فكان الضمير في (لسانه) راجع عليه أي القلم فالذي يمج الظلام هو القلم.
فهنا استعارة مكنية، حيث شبه القلم بإنسان، فالقلم مشبه والإنسان مشبه به، والعلاقة هي المشابهة حيث أن القلم يمج المداد من دواته بعد ملئه بالحبر، والإنسان يمج الماء من فمه بعد أن يدخله إلى فاه. والقرينة الدالة على إرادة المعنى المجازي لفظية وهي(لسانه) فالقلم ليس له لسان كلسان الإنسان، فحذف المشبه به الذي هو الإنسان ورمز له بشيء من لوازمه وهو اللسان حيث أنه من لوازم الإنسان.
فالاستعارة هنا في القلم الراجع إليه ضمير (لسانه).
وكذلك في البيت استعارة أخرى في لفظ الظلام، حيث استعمل لفظ الظلام بدل لفظ المداد، لعلاقة المشابهة وهي السواد، والقرينة الدالة على إرادة المعنى المجازي من الظلام لفظية وهي اللفظ (يمج). فالظلام لا يمج ولكن المداد من القلم يمج.
والمعنى الحقيقي من الظلام هو ذهاب النور والمجازي هنا المداد. والقلم هو الذي يمج المداد، فعندما جعل لفظ الظلام بدل لفظ المداد علمنا أن المشبه هو المداد والمشبه به هو الظلام، فصرح بلفظ المشبه به في البيت فالاستعارة تصريحيه.
والقلم يمج مداده في الورق، ولكنه في البيت استعمل لفظ (النهار) بدل لفظ الورق لعلاقة المشابهة بين اللفظين وهي بياضهما، والقرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي للنهار لفظية وهي (يمج ظلاماً في) فالمداد لا يمج في النهار ولكنه يمج في الورق. فهذه استعارة تصريحية أيضاَ حيث شبه الورق بالنهار وصرح بلفظ المشبه به وهو النهار.
قلت: وهناك أيضا قرينة حالية وهي حال وصف المتنبي للقلم يقتضي إرادة المعنى المجازي من الألفاظ السابقة.
تنبيه آخر: اللفظ الواحد له معنى حقيقي واحد، ولكن المعنى المجازي له يتعدد بتعدد مواضعه بين الألفاظ الأخرى والعبارات والقرائن اللفظية والحالية.

وبعد ذلك فانظر إلى ألفاظ الاستعارات الثلاث أولاً في لفظي الاستعارتين التصريحيّتين، ترى أنه استعير لفظ المصرح به الذي هو المشبه به (ظلاماً) و (نهار) بدل لفظ المشبه (المداد) و (الورق)، لكنه رمز إلى كل من اللفظين المصرح بهما بشيء من لوازمهما ورمز الظلام هو لفظ القرينة المانعة من إرادة معناها الحقيقي الذي وضع لفظ الظلام له وهو (يمج)، ورمز النهار (يمج ظلاماً في).
وأما في الاستعارة المكنية ترى أنه شبه العلم بالإنسان وحذف المشبه به الذي هو الإنسان واحتجب في نفس المتنبي ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو اللسان.
وتمت الاستعارة بهذا العمل، فما الجديد وأين نجد الاستعارة الأصلية؟
إذا تأملت ألفاظ الاستعارات السابقة وهي القلم والظلام والنهار، رأيتها ألفاظاً جامدة غير مشتقة وبما أنها ألفاظ جامدة فالاستعارات الثلاث في البيت السابق أصلية.
لكن ما معنى جامدة ومشتقة؟:
الألفاظ الجامدة تعني أنها الأصل في اللفظ والتي تشتق منها ألفاظ أخرى، فهي جامدة لم تشتق من غيرها، كلفظ النصر جامد أما نصَر وينصر ومنصور وناصر فهي ألفاظ مشتقة من اللفظ الجامد وهو النصر، والنصر مصدر فكل مصدر جامد.
والألفاظ المشتقة هي الألفاظ التي اشتقت من الألفاظ الجامدة.

توضيح النقطة الأولى في القاعدة السابقة:
الأولى: تكون الاستعارة أصلية إذا كان اللفظ الذي جرت فيه الاستعارة وهو المشبه به المصرح به في الاستعارة التصريحية والمشبه الموجود في النص في الاستعارة المكنية اسماً جامداً غير مشتق.
الثانية: تكون الاستعارة تبعية إذا كان اللفظ الذي جرت فيه الاستعارة اسماً مشتقاً أو فعلاً.

مثال: قال تعالى: (ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم يرهبون)
أي سكت الغضب عن موسى، والغضب لا يسكت بل ينتهي، فاللفظ سكت فيه مجاز لغوي وهو الاستعارة حيث استعمل لفظ سكت بدلاً من انتهى، فشبه الانتهاء بالسكوت وصرح بلفظ المشبه به وهو سكت، سكت لفظ الاستعارة التصريحية في الآية الكريمة وهو فعل، وبما أنه فعل فالاستعارة تصريحية تبعية لأن الفعل مشتق.

تنبيه: الاستعارة التبعية لفظها المستعار اسم مشتق أو فعل مشتق كما ذكر في القاعدة، والفعل دائماً مشتق فهو يلحق به، فلو قلنا: الاستعارة التبعية ما كان لفظها المستعار مشتقاً، والاستعارة الأصلية ما كان لفظها جامداً لكفى، لكن ذكر الفعل بالاستعارة التبعية لتسهيل العملية حيث أنك إذا أردت الفعل هو اللفظ المستعار فاعلم أنها استعارة تبعية.
واعلم أن الاستعارة التبعية سميت تبعية لأن ألفاظها مشتقة وتتبع في اشتقاقها الألفاظ الجامدة، فالألفاظ الجامدة هي الألفاظ الأصلية ولذا سميت الاستعارة الأصلية بذلك.
وألفاظ الاستعارة التبعية أسماء فقط.

مرّ مثال الفعل في الاستعارة التبعية، والآن نذكر مثال الاسم المشتق:
قلت: جالست أقماراً علا حسنها وارتقى على حسن دار سكنها باق وموعد
أقمار جمع قمر وقمر جامد فلفظ أقمار مشتق فهنا الاستعارة تصريحية تبعية.
مثال: قابلت مشمسا وسعدت بلقائه.
الاستعارة هنا في لفظ مشمس حيث استعمل لفظ مشمس بدل العالم فالعالم مشبه ومشمس مشبه به والعلاقة هي المشابه حيث أن العالم ينشر علمه على الناس، والشمس تنشر ضوئها على البقاع. والقرينة لفظية وهي قابلت. ومشمس اسم فاعل مشتق من الشمس. وصرح بلفظ المشبه به فالاستعارة تصريحية تبعية.
تنبيه: قد تكون استعارتان مختلفتان في بيت واحد، أو آية أو جملة.
ومعنى التبعية هنا أن لفظ المشبه به مشمسا مشتق من مصدر المشبه به وهو الشمس، فجرى لفظ المشبه به في لفظ مشتق من المصدر حيث أن المصدر هو المشبه به الحقيقي وكان اللفظ المشتق تابعاً للمصدر في جريان الاستعارة عليه.
النقطة الثالثة من القاعدة:
توضيحها: كل استعارة تبعية يصح أن يكون في قرينتها استعارة مكنية، وإذا أجريت الاستعارة على أنها في لفظ الاستعارة التبعية فلا يجوز أن تجريها على القرينة على أنها استعارة مكنية، والعكس كذلك فإذا أجريت الاستعارة على لفظ القرينة حيث أنها استعارة مكنية فلا يجوز إجراء الاستعارة على لفظ الاستعارة التبعية .
توضيح ذلك على المثال السابق: (قابلت مشمسا وسعدت بلقائه)، فمشمسا استعارة تصريحية تبعية، فهنا نستطيع أن نجعل المشمس على معناه الحقيقي أي نجم مشمس يضيء من نفسه، والقرينة للاستعارة التبعية هي (قابلت) فلو جعلنا مشمسا على معناه الحقيقي فقابلت يكون استعارة مكنية، حيث أن قابلت مشبه والمشبه به لقيت فحذف المشبه به واحتجب في نفس القائل، وصارت القرينة لفظ مشمسا، والعلاقة بين قابلت ولقيت هي المشابهة. لكن إذا أجرينا الاستعارة على اللفظ (قابلت) امتنع من إجرائها على اللفظ (مشمسا) والعكس كذلك.
قلت: والسبب هو أننا إذا أجرينا الاستعارة أولا على اللفظ مشمسا ثم أردنا أن نجريه على اللفظ قابلت امتنع ذلك لأن قابلت قرينة للاستعارة التبعية وهي مشمسا، فإذا أجرينا الاستعارة على قابلت وهي مكنية امتنعت الاستعارة التبعية في مشمسا، وإجراء الاستعارة في قابلت يتطلب كون معنى مشمسا على المعنى الحقيقي الذي وضع له، وإجراء الاستعارة على مشمسا يتطلب إرادة المعنى الحقيقي من قابلت، فلا بد من إجراء الاستعارة على واحد منهما. ولا يتعارض هذا مع وجود استعارتين فأكثر في بيت واحد مع وجود علاقة لكل لفظ مستعار.

لكن السؤال هنا هل يمتنع ذلك في الاستعارة الأصلية؟
الجواب: لا يمتنع في الاستعارة الأصلية، والدليل الأول هو أن ذلك لم يذكر في القاعدة والدليل الثاني ما سنطبقه الآن على مثال في الاستعارة الأصلية بمشيئة الله رب العباد:
عندما قال المتنبي وهو يصف القلم: يمج ظلاما في نهار لسانه.
القلم الراجع عليه ضمير اللسان، وظلاما ونهار كلها ألفاظ أجريت عليها الاستعارة وكل لفظ قرينته تختلف عن قرينة الأخرى. فلنتناول اللفظ ظلاما :
قرينة ظلاما يمج والمعنى يمج القلم ظلاما : فمج القلم أريد به المعنى الحقيقي فإذا أردنا أن نجعله محل إجراء الاستعارة عليه فلا بد من جعل اللفظ ظلاما على معناه الحقيقي وهذا يستحيل فالقلم لا يمج الظلام أي سواد الظلمة منه.
ولنتناول اللفظ نهار فسترى أن القلم لا يمج مداده في النهار فيستحيل جعل القرينة وهي( يمج ظلاما) في محل إجراء للاستعارة.

ولنتناول مثالا أخرا أيضا: قال المعري:
فتى عشقته البابلية حقبة فلم يشفها منه برشف ولا تثم

اللفظ المستعار هنا هو البابلية ومعناها الحقيقي الخمر، وشبهت هنا بامرأة، فالبابلية مشبه والمرأة مشبه به، والمشبه به هو المحذوف فالاستعارة مكنية. ولفظ البابلية جامد فالاستعارة أصلية.
القرينة هنا (عشقته) والبابلية لا تعشق. فشاهد العمل الذي سنجريه الآن هو هل نستطيع أن نجعل لفظ القرينة محل استعارة؟ سنرى..
المعنى الحقيقي للبابلية هو الخمر ولابد من استعمال المعنى الحقيقي إذا أردنا جعل القرينة محال لإجراء الاستعارة عليها وهذا محال هنا أيضا، لأن الأمر سيجعل البابلية هي محل الاستعارة حيث أنها التي تعشق.
ولنأخذ مثالا آخر أيضا وهو:
قول المتنبي وهو يخاطب سيف الدولة:
أحبك يا شمس الزمان وبدره وإن لامني فيك السها فراقد
اللفظ شمس هنا مشبه به والمشبه هو سيف الدولة فالاستعارة تصريحية والقرينة ( أحبك)، فلو أردنا إجراء الاستعارة على أحبك لاستحال هنا لأن لفظ شمس ولو جعل على معناه الحقيقي لما استغرب أمر محبته ولكان معنى المحبة هو الحقيقي. وكذا في لفظ بدره وقرينة بدره هنا أيضا أحبك. فيجوز تعدد ألفاظ الاستعارة مع وجود قرينة واحدة. وتستطيع أن تقول بأن قرينة (بدره) هي أحبك المقدرة بعد واوا العطف أي وأحبك يا بدره. ولفظ شمس وبدر كل منهما جامد.
وكذلك تكون المناداة للعاقل فمناداته تكون قرينة ومع ذلك لو جعلنا ألفاظ الاستعارة على معناها الحقيقي يستحيل إجراء الاستعارة على أحبك.
فعندما كان ذلك ما يجري في الاستعارة الأصلية، لم يتطرق إليه بالقاعدة. ولعل السبب يرجع في كون لفظ الاستعارة جامداً حيث عدم وجود أحرف زائدة فيجتمع المعنى وينحصر في نفسه.
وفي الاستعارة التبعية عندما نجري الاستعارة على القرينة فإنها لا تكون إلا استعارة مكنية.
والحمد لله رب العالمين.

تقسيم الاستعارة إلى مرشحة ومجردة ومطلقة
القاعدة:
أولا: الاستعارة المرشحة: ما ذكر معها ملائم المشبه به سواء أكانت تصريحية أم
مكنية، ومثال التصريحية قوله تعالى: (( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم)).

في اللفظ (اشتروا) استعارة تصريحية، حيث شبه اختيار المشار إليهم في الآية بالشراء، وصرح بلفظ المشبه به وهو اشتروا وحذف المشبه وهو اختاروا والعلاقة المشابهة والقرينة هو لفظ (الضلالة).
وإذا تأملت الاستعارة التصريحية هنا رأيت أنها قد ذكر معها شيء يلائم المشبه به (اشتروا) والشيء الذي يلائمه قوله: ((فما ربحت تجارتهم)) فالشراء من أعمال التجارة حيث أنهم اشتروا الضلالة ليتاجروا بها طوال حياتهم من ضلالة لأخرى.
ففي هذه الاستعارة ذكر ملائم المشبه به فتسمى استعارة مرشحة، واشتروا فعل فهي استعارة تبعية. قلت:
فإذا الاستعارة في (اشتروا) استعارة تصريحية تبعية مرشحة.
مثال آخر: قال البحتري: يؤدون التحية من بعيد إلى قمر من الإيوان باد
ولفظ الاستعارة هنا قمر حيث شبه البحتري شخص الممدوح الذي مدحه بالقمر، فالممدوح مشبه والقمر مشبه به، والاستعارة تصريحية حيث صرح بلفظ المشبه به وهي استعارة أصلية لأن لفظ قمر جامد، والعلاقة بين اللفظين المشابهة والقرينة (يؤدون).
تنبيه: قد يكون الحرف واسطة للقرينة كإلى في هذا البيت، حيث لا نستطيع القول يؤدون التحية قمر، بل إلى قمر أو للقمر فلا بد من حرف وهذه من فوائد الحروف في الكلام.
وهنا الاستعارة مرشحة حيث ذكر ملائم المشبه به وهو (من الإيوان باد) معناه من المجلس الكبير ظاهر. وهذا اللفظ هو الملائم للمشبه به حيث أن القمر وسط السماء والنجوم ظاهر. فالاستعارة تصريحية تبعية مرشحة.
ومثال الاستعارة المكنية المرشحة:
خلق فلان أرق من أنفاس الصبا إذا غازلت أزهار الرّبا.
في كلمة (الصبا) وهي الريح التي تهب من مطلع الشمس استعارة مكنية، حيث شبهت بإنسان وحذف المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو أنفاس حيث أن القرينة والعلاقة هي المشابهة، والملائم للمشبه الذي هو لفظ الصبا هو (غازلت) حيث أن رياح الصبا تهب وتقصد الربا أي أزهار الأماكن العالية فتغازلها وتتخللها وتتودد برفق إليها، فالاستعارة مكنية أصلية مرشحة.
تنبيه: وصف الأصلية والتبعية يتعلق باللفظ الذي جرت عيه الاستعارة، أما وصف الترشيح بلفظ المشبه به، ولفظ التجريد بالمشبه.

قلت: وسبب تسميتها بالمرشحة حيث رشح المشبه به بأن يذكر ملائما له معه، وسبب كون الخصوصية للمشبه به حيث أن به يكون التشبيه والاستعارة عبارة عن تشبيه حذف أحد طرفيه، وبما أن الاستعارة هنا تبعية فنستطيع إجراء الاستعارة على لفظ القرينة وهي (الضلال) فتكون كما مر في القاعدة الاستعارة مكنية، حيث أن الضلال مشبه والبضاعة أو الشيء الذي اشتري هو المشبه به. ولكن لا يجوز إجراء الاستعارة إلا على واحد منهما. ولو أجريت الاستعارة المكنية لكان الملائم نفسه لكن للمشبه، فالحاصل أنك قد تجد ملائما وقد لا، وهذا ينطبق على جميع الأمثلة السابقة.

ثانيا: الاستعارة المجردة ما ذكر معها ملائم المشبه.
قلت: سميت مجردة لأن المشبه به جرّد عن الملائم حيث حظي به المشبه، مع أن المشبه به كما قلنا سالفا، فإذا أردنا وصف زيد بالشجاعة فشبهناه بالأسد تقول زيد كالأسد، فالأسد هو ملمح الشجاعة هنا فالمشبه به هو المخصوص في التشبيه وإن كان المقصود من التشبيه يقع على المشبه، وجمال الاستعارة يكمن في لفظ المشبه به.

أمثلة الاستعارة المجردة: نبدأ بأمثلة الاستعارة المكنية المجردة:
الأول: قال البحتري: وأرى المنايا إن رأت بك شيبة جعلتك مرمى نبلها المتواترِ
المنايا جمع منية وهي الموت، والمشبه هنا الضمير في رأت العائد على المنايا والمشبه به محذوف محتجب في نفس البحتري وهو الناس، والعلاقة هي المشابهة والقرينة (رأت).
والملائم للمشبه (جعلتك مرمى نبلها) فالمشبه المنايا ومعناها الموت كما مر (وجعلتك مرمى نبلها) لفظ ملائم لها لأنه يؤدي إلى الموت، والمعنى:
وأرى المنايا حالها دائما إذا رأت ظهور الشيب ولو شيبة واحدة بدأت ترمي عليك أسهمها القاتلة فكنت مرمى لها حتى تصيبك بسهم المنية.
فالاستعارة مكنية أصلية ــ لأن لفظ الناس جامد ــ مجردة.


الثاني: كان فلان أكتب الناس إذا شرب قلمه من دواته أو عنّى فوق قرطاسه.
الاستعارة مكنية في لفظ قلمه، حيث شبه القلم بإنسان وحذف المشبه به، والقرينة شرب والعلاقة المشابهة. والشاهد هنا ذكر ملائم للمشبه وهو(دواته) و(قرطاسه) حيث أن القلم يأخذ حبره من الدواة ويكتب في القرطاس. ولفظ القلم جامد والاستعارة مكنية أصلية مجردة.

تنبيه: نستطيع القول بأنها استعارة مكنية أصلية مجردة أو استعارة مكنية ثم نصفها بأنها أصلية وبأنها مجردة, ولا إشكال في تقديم وصف التجريد أو الترشيح على الأصلية والتبعية, ولكن الأفضل تقديم وصف الأصلية والتبعية لأنها أوصاف باللفظ المستعار, أما وصفا الترشيح والتجريد فإنهما خارج اللفظ المستعار أي في الملائم.

ومثال الاستعارة التصريحية المجردة:
الأول: فإن يهلك فكل عمود قوم من الدنيا إلى هلك يصير
في اللفظ (عمود) استعارة تصريحية حيث أن المشبه به والمشبه محذوف وهو رئيس القوم والعلاقة المشابهة والقرينة (يهلك), والملائم المشبه هنا (إلى هلك يصير).
قلت: ووجه الملاءمة أن رئيس القوم هو المقصود الذي يقصده الباغون, وهو المعرض والفتن وحب المال والجاه فماذا مصيره؟ إلى الهلاك أقرب, وهكذا تعرف الملائم في الكلام للفظ الاستعارة حيث تجد وجهاً للملاءمة فإذا لم تجد فهو غير موجود إذاً. والملائم هنا لاءم المشبه حيث أن الرئيس هو الذي يهلك وهو أقرب من لفظ (عمود) وإن كان كلاهما يقع عليه الهلاك, أما العمود فلو كان اللفظ الملائم هو السقوط أو التحطم لكن أولى أن يكون الملائم للفظ له أي المشبه به وهكذا قس عليه في كل مثال. واللفظ الذي أجريت عليه الاستعارة هو (عمود) وهو جامد فالاستعارة التصريحية أصلية مجردة.

الثاني: وليلة مرضت من كل ناحية فما يضيء لها نجم ولا قمرُ
الاستعارة في اللفظ (مرضت) حيث أن الليلة لا تمرض, فشبه اللفظ أظلمت بمرضت وحذف المشبه وصرح بلفظ المشبه به فالاستعارة تصريحية, و العلاقة المشابهة, والقرينة ليلة, والملائم هنا (يضيء لها نجم ولا قمر) وهو يلائم المشبه أي أظلمت من الظلمة, حيث أن ظلمة الليل بها تضيء النجوم والقمر وإن كان نفي الإضاءة في البيت , فليس له علاقة لأن ظلمة الليل هي الحاوية للنجوم والقمر فالاستعارة مجردة.
ومرضت مشتق من المرض فالاستعارة تصريحية تبعية مجردة, وليس هناك ملاءمة بين المرض وإضاءة النجوم والقمر.

مثال الاستعارة التصريحية الخالية من الملائم:
قال تعالى: (إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية )

فطغى مشبه به والمشبه زاد وليس هناك ملائم للمشبه به .
مثال الاستعارة المكنية الخالية من الملاءمة:
قول قريظ بن أنيف: قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم طاروا إليه زرافات ووحدانا
الشر مشبه والإنسان مشبه به محذوف وليس هناك ملائم للمشبه.
والحمد لله رب العالمين

ثالثا: الاستعارة المطلقة هي ما خلت من ملائمات المشبه به أو المشبه.
المثالان السابقان تمثيل لها , فمثال الأول نقول فيه أن الاستعارة مطلقة حيث أنها خلت عن ملائم للمشبه به, والمثال الثاني خلت الاستعارة فيه عن ملائم للمشبه.
فنستطيع القول بأن الاستعارة في المثال الأول استعارة تصريحية تبعية مطلقة, وفي المثال الثاني أن الاستعارة مكنية أصلية مطلقة.

رابعا: لا يعتبر الترشيح أو التجريد إلا بعد أن تتم الاستعارة باستيفائها قرينتها لفظية أو حالية, ولهذا لا تسمى قرينة التصريحية تجريداً, ولا قرينة المكنية ترشيحاً.
معنى هذه القاعدة أن الاستعارة عندما يتم إجراؤها في الكلام لا نسارع في اعتبارها مرشحة أو مجردة إلا بعد أن نميز القرينة حتى لا نجعل لفظ القرينة هو الملائم فنغلط ويشتبه علينا لفظ القرينة بالملائم, خاصة إذا كان الكلام خاوٍ عن الملائم والقرينة فيه لفظية.
فليس للترشيح والتجريد اعتبارا إلا بعد استيفاء إجراء الاستعارة على اللفظ المستعار والقرينة.
ثم قال في القاعدة: ( ولهذا لا تسمى قرينة التصريحية تجريداً ) لماذا لم يق تجريداً أو ترشيحاً؟ قلت لأن القرينة في الاستعارة التصريحية تلائم المشبه المحذوف دائماً,فلنرجع إلى مثال " أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى " فالضلالة مشبه به والقرينة اشتروا تلائم المشبه الذي هو البضاعة أو الشيء المشترى وقال: ( ولا- تسمى - قرينة المكنية ترشيحاً ) أي ولا تسمى قرينة الاستعارة المكنية ترشيحاً, لماذا لم يقل ترشيحاً أو تجريداً ؟ قلت: لأن القرينة في الاستعارة المكنية وجه الملاءمة بها يناسب المشبه به المحذوف, ولنرجع إلى مثال:
وأرى المنايا إن رأت بك شيبة جعلتك مرمى نبلها المتواتر
فالمنايا مشبه والمشبه به الناس أو الإنسان والقرينة أرى وهي تلائم الناس أكثر حيث أن القرينة تقع عليهم أما المنايا أي جمع منية وهي الموت فهو أمر معنوي لا تقع عليه الرؤية, وهكذا قس عليه. والحمد لله رب العالمين



















الاستعارة التمثيلية
الاستعارة التمثيلية تركيب استعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة مع قرينة مانعة من إرادة معناه الأصلي .
التوضيح:
الاستعارة التمثيلية هي عبارة عن تركيب أي عدة ألفاظ وليس لفظاً واحداً كما في الاستعارات السابقة, فالمشبه في الاستعارة التمثيلية تركيب والمشبه به تركيب , فهنا محل الاختلاف مع الاستعارة التصريحية والمكنية تركيب استعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة مع قرينة مانعة من إرادة معناه الأصلي أي الحقيقي وهذا مر بيانه .
الأمثلة:
الأول: من أمثال العرب: قبل الرّماء تملأ الكنائن (إذا قلته لمن يريد بناء بيت مثلاً قبل أن يتوافر لديه المال) .
معنى المثل أي قبل رمي السهام تملأ الكنائن أي أوعية السهام , فكيف يتم رميها والأوعية فارغة. وهذا المثال يقال لكل حال يناسبه وهو هنا ناسب قوله من أراد أن يبني بيتاً قبل توافر المال عنده, فمن أراد بناء البيت أولاً يجمع المال ثم يبني, فتقول وشبه من أراد البناء قبل توافر المال: ( قبل الرمال تملأ الكنائن ).
فهنا الاستعارة تمثيلية حيث أن ( قبل الرمال تملأ الكنائن ) تركيب استعمل في غير ما وضع له أي في غير معناه الحقيقي الذي وضع له, ومعناه الحقيقي الذي وضع له هو لمن أراد رمي السهام قبل رمي الكنائن. فهنا استعمل هذا التركيب في غير ما وضع له أي لمعنى مجازي وهو لمن أراد بناء البيت قبل توافر المال. فشبه حال من أراد بناء البيت قبل توافر المال بحال من أراد رمي السهام قبل ملء الأوعية.
أي أنه شبه تركيب بتركيب, والعلاقة هي المشابهة وهي إرادة الإقدام على أمر وفعله قبل الاستعداد. والقرينة المانعة من إرادة الحقيقي للمثل حالية, حيث ضرب المثل لمن أراد بناء البيت, فحال ضرب المثل له يمنع إرادة المعنى الحقيقي.

تنبيه: الاستعارة التمثيلية قسم مستقل حيث أنها لا توصف بالأصلية ولا بالتبعية ولا بالترشيح ولا بالتجريد, ولا نستطيع أن نقول أنها استعارة تصريحية وصفت أيضا بالتمثيلية إذا رأينا أن التركيب المشبه به هو المذكور, ولا مكنية.
تنبيه آخر: هو أن تركيب الاستعارة التمثيلية الذي يذكر ويقال هو المشبه به دائماً، والتركيب المحذوف هو المشبه.
ملاحظة: قلت: القرينة في الاستعارة التمثيلية دائماً حالية.

الثاني: عاد السيف إلى قرابه, وحل الليث منيع غابه. (لمجاهد عاد إلى وطنه بعد سفر).
وهنا تركيبان الأول: عاد السيف إلى قرابه, والثاني: حل الليث منيع غابه, وعندما تقولهم لمجاهد عاد إلى وطنه فإن التركيبان استعملا لغير ما وضعا له بل لمعنى مجازي دلت عليه قرينة حالية حيث قولك له في حال رجوعه, والعلاقة المشابهة وهي عود السيف والليث إلى محلهما وكذا المجاهد. ففي التركيب الأول استعارة تمثيلية وفي التركيب الثاني استعارة تمثيلية. والتركيبان هما المشبه بهما والمشبه به واحد وهو المحذوف.

ملاحظة: ترى في تركيب الاستعارة التمثيلية أن ألفاظ المشبه وألفاظ المشبه به متعددة وكل واحد للآخر, بيانه في المثال السابق: السيف المشبه به والمجاهد مشبه, وقراب السيف مشبه به ووطن المجاهد مشبه.
وقس عليه. والحمد لله رب العالمين












الخاتمة
إذا علمنا ذلك نستطيع أن نقول أن الاستعارة تنقسم إلى :
1- استعارة تصريحية أصلية .
2- استعارة تصريحية أصلية مرشحة .
3- استعارة تصريحية أصلية مجردة .
4- استعارة تصريحية تبعية .
5- استعارة تصريحية تبعية مرشحة .
6- استعارة تصريحية تبعية مجردة .
7- استعارة مكنية أصلية .
8- استعارة مكنية أصلية مرشحة .
9- استعارة مكنية أصلية مجردة .
10- استعارة مكنية تبعية .
11- استعارة مكنية تبعية مرشحة .
12- استعارة مكنية تبعية مجردة .
13- استعارة تمثيلية .

ملاحظة : ونستطيع أيضاً التفريع على حسب القرينة أي لفظية أم حالية أم لفظية وحالية .

ملاحظة أخرى :
ليست الاستعارات منحصرة فيما سبق ولكن ما ذكر هو أهمها .

وتم بحمد الله وصلى الله على الهادي محمد وآله وصحبه دائماً سرمداً
وكان الفراغ من طباعته ليلة الاثنين الرابع من ربيع الأول سنة 1430 هجرية.